الجمعة، 10 فبراير 2012

ميلود لقاح

ميلود لقاح بن محمد لقاح، أو بالأحرى الشاعر بن الشاعر … عرف الغاوون والدَه، “بعشقه الملتهب” و”فؤاده المفتوح” و”حنينه المهرب” شاعرا معنّى جميلا كجمال ( يوسف المغربي ) ! وتنسموا أشعاره “الأطلسية” المنعشة … وها هو الولَد ميلود، مدلَّلُ الأسرة الشعرية العريقة، وسليل العائلة اللغوية الشريفة، يرث عن والده هذه اللغة الشعرية المشتهاة، يرث فصاحة اللسان وبلاغة القلم، فضلا عن حرارة القلب ( فليس غريبا إذاً أن يشترك عنوان مجموعته هذه مع عنوان المجموعة الأولى لأبيه “هذا العشق ملتهب” في هذا الصهد الحارق ! ) ويحجز لآل لقاح موقعا أثيرا على الخارطة الشعرية المغربية المعاصرة.
وبقدر اشتراك ميلود مع والده في هذه الجينات الشعرية، فإنهما مختلفان بحجم اختلاف كعب عن زهير، ولا أدل على هذا التفرد من هذه ( الأغنيات ) التي يتشرف قلمي المتواضع بخط عتباتها الأولى.
إن هذه ( الأغنيات ) “الميلودية” ( ومن المصادفات اللغوية السعيدة التي لم أقصد إليها أن تتوحد النسبة هنا إلى “ميلود” و “Mélodie” في الآن نفسه ! ) هي أغنيات الشعري القصير شعرية شجية حارقة، منبعثة من سقر القلب، عليها تسعة عشر من النصوص التي تتنزّى حرقة وتتلوّى لوعة وتفيض جمالا؛ هو الجمال الأصيل البسيط الذي لا يفلسف أدواته ولا يعقد آلياته، لأن الأرضية الفنية التي أنتجت هذه ( الأغنيات ) هي أرضية جميلة أصلا، صالحة للإنتاج بفضل تكوين تربتها اللغوية وغنى سمادها الإيقاعي.
لا يمكن أن تكون هذه ( الأغنيات ) إلا أغنيات حديثة، لكنها حديثةٌ حداثة معقلنة ( إن صح الوصف )؛ تتوسل بالتجريب سبيلا إلى تطعيم القصيدة بما يحييها ويجددها ويقاوم صدأ قوالبها وصدى خوائها، دون أن يقودها ذلك التجريب إلى مغالاة في الإبهام والإفراط في التجريد، مع الاستخفاف بالمتلقي ورميه بالجهالة الجهلاء، والبحث المزعوم عن متلقٍّ ( يوتوبي ) يسكن في زمن الآتي الذي لا يأتي ! تتشدق به بعض الحداثات “الخنفشارية” التي لا غاية لأصحابها سوى التعويض اللاشعوري لنقص لغوي أو عجز عروضي أو تصحر بلاغي ! …
وقد أتيح لي أن أقرأ قسطا وافرا من الأشعار المغربية فألفيت هذه “الحداثة المعقلنة” قاسما مشتركا بين مجمل
شعراء ( وجدة ) الذين يلاحظ المتلقي – أول ما يلاحظ – كأنما أشعارهم تخرج من ( مشكاة ) واحدة !!! …
يحكم ( أغنيات من حريق الحشا ) نظام فني ديموقراطي إلى أبعد الحدود؛ حيث تتعايش الأشكال المتعارضة وتتآلف
الأدوات المختلفة؛ فهذه قصيدة عمودية تختم أخريات حرة، وتلك قصيدة تقوم على نظام السطر ، وأخرى تستبد بها “الجملة الشعرية” المدورة ( إذ تتجلى براعة التدوير في نحو ستِّ قصائد كاملة ) …
ثمة أيضا أنساق إيقاعية مختلفة تعكسها خمسة بحور شعرية، يهيمن المتدارك على أكثر من نصف عدد قصائدها ( ويبدو أنه البحر الأثير المفضل لدى جمهور الشعراء المغاربة المعاصرين )، ثم يليه الكامل والبسيط، ثم الوافر والمتقارب، وقد يجتمع بحران اثنان على قصيدة واحدة؛ كما في قصيدتَيْ ( نادل ) و ( القصيدة ) اللتين يتنازعهما ( المتقارب ) وشقيقه في دائرته ( المتدارك ).
وفي قصيدة ( مليلية ) يستأنف الشاعر حُكْماً وقعه شعراء الحداثة الأولى الذين آمنوا بلا جدوى كتابة قصيدة التفعيلة على بحر ممزوج ( مركب )، وأن الصفاء وحده هو سيد الإيقاع الحر، لكن الشاعر نقض هذا الحكم مُثْبِتاً أن البحر البسيط أيضا في وسعه أن يَعْبُرَ ( مليلية ) المدينة المحتلة جغرافيا/الحرة شعريا ! …
ومن أمارات التعايش الفني الجميل في هذه ( الأغنيات )، زيادة على ما سبق، أن يتزاوج سمو اللغة الفصحى ( ضحكتك الْتَبعث النور، الفؤاد الْيبرحه الشوق … ) وبساطة العامية الجميلة ( هُبْ لَلا، كُكُّعا … )، وأن تتصالح أطلال أم كلثوم ( كان صرحا من خيال … ) مع “دَرْبَكة الرّاي” و”شهقة الزهوانية” ! …
الجميل في كل ذلك أن صاحب الـ( أغنيات … ) يعايش بين هذه الإيقاعات المتنافرة في هدوء إيقاعي يُنْسيك صخب
القادرين على دق الطبول الخليلية والنفخ في المزامير الفلكلورية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق